الجامع القديم لوحة من قلب الماضي
2012-11-18 05:16:19
شاهد على 200 عام من تاريخ رأس الخيمة يشكّل المسجد الجامع الكبير، الذي يطلق عليه أيضاً اسم مسجد الشيخ محمد بن سالم، أحد أقدم مساجد إمارة رأس الخيمة والدولة عامة، وقد بلغ من العمر التقديري ما يفوق قرنين من الزمن . وفقاً لمصادر تاريخية، أسس المسجد، القابع في آخر رأس الخيمة القديمة، في الفريج الأخير منها في اتجاه البحر، في عهد الشيخ صقر بن راشد القاسمي الذي حكم بين 1777 و،1803 بادر بعدها الشيخ سلطان بن صقر القاسمي “سلطان الكبير«، الذي حكم بين 1803 و،1866 إلى توسعة المسجد . وكانت آخر عملية ترميم وصيانة خضع لها المسجد في عهد المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ صقر بن محمد القاسمي عام 1987 . يطل المسجد التاريخي الذي تقام فيه الصلاة إلى يومنا، من فوق ربوة في منطقة رأس الخيمة القديمة على ساحل الخليج العربي، ويقع إلى الشمال من “فريج آل علي«، وتاريخ بنائه غير معروف على وجه الدقة، لكنه يراوح، وفق أرجح تقديرات المختصين، بين عامي 1780 و1790 . يؤكد عدد من المعمرين في رأس الخيمة، ممن تراوح أعمارهم بين 70 و80 عاماً، أنهم منذ أن فتحوا عيونهم على الدنيا وهم يؤدون الصلوات الخمس في هذا المسجد، حيث كان الجامع الكبير الوحيد في مدينة رأس الخيمة حينها، وكان يجمع شيوخ القواسم مع أهالي المدينة، في حين كان حاكم الإمارة يلتقي الأهالي في نطاقه لبحث مطالبهم بعد الصلاة . ويمتد المسجد على مساحة 1600 متر مربع، ويضم قاعة للصلاة تستأثر بنحو ثلثي مساحته الإجمالية، وتتسع مع ساحته الخارجية لنحو ألف مصل، وكان يضم سابقاً في جزئه الجنوبي الشرقي مصلى صغيراً للنساء، وتقام الصلوات الخمس في المسجد حتى الآن . خضع المسجد الجامع لعمليات ترميم، نفذها أبناء الإمارة في الماضي، حتى نشأة دولة الاتحاد، تولت بعدها المهمة دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة، وجمعت أعمال الترميم بين الحداثة والأصالة، وفقاً لمصادر الدائرة، من خلال استخدام الجص والحجر مع سعف النخيل في السقف، فيما حافظ المسجد على تصميمه وتراثه العمراني حتى الآن، رغم تزويده بأجهزة التكييف، حيث يضم فوانيس الإضاءة (الفنارة)، التي كانت تضاء بواسطة “الكاز”ليلاً . مسجد القواسم عُرف المسجد كما يقول الدكتور أحمد التدمري، الباحث في تاريخ الخليج العربي، باسم “الجامع”لإقامة صلاة الجمعة فيه، وربما لأنه كان يجمع أهالي رأس الخيمة من أجل أداء الصلاة تحت سقف واحد، فيما عرف باسم “مسجد الشيخ محمد بن سالم”لأنه بني بالقرب من مقر سكنه الذي يشغله حالياً مركز الدراسات والوثائق التابع للديوان الأميري في رأس الخيمة، كما عرف باسم “مسجد القواسم«، نسبة إلى العائلة الحاكمة في رأس الخيمة . د . حمد بن صراي أستاذ التاريخ القديم في قسم التاريخ والآثار في جامعة الإمارات، أورد في دراسته، التي أجراها عن المسجد، وتعد أول دراسة توثيقية عنه، حملت عنوان “المسجد الكبير في رأس الخيمة: تاريخ ورواية وأثر«، أن حكومة رأس الخيمة نفذت عملية ترميم للمسجد، وأضافت 28 نافذة مقوسة على جانبيه، وألغت غرفة مصلى النساء، مع إضافة ممر مغطى لمقدمة المسجد، بجانب تغطية جدرانه الخارجية بأحجار جبلية، ويحتوي المسجد على ثلاثة أبواب كبيرة تفتح باتجاه الجهة الشرقية، و60 عموداً، يعلوها سقف مغطى بسعف النخيل . ويضيف ابن صراي: اكتشِفت خلال عملية الترميم 3 طبقات مِن الطين واللبِن تحت جدران وأعمدة المسجد، وعملة عمانية قديمة قدر عمرها بأكثر مِن 150 عاماً، وكان يوضع الجريد في السقف خلال الترميم . ويضم المسجد حصاة منحوتة يقدر عمرها بنحو 80 عاماً، فيما كان الأهالي يتوجهون إلى جزيرة طنب الكبرى على متن السفن لجلب الحصى واستخدامه في بناء المسجد . رواية شفهية ويلفت أستاذ التاريخ إلى أن “الرواة الشفهيين أجمعوا على أن المسجد قديم، لكنهم لا يستطيعون تحديد عمره بالضبط، لأنهم ولِدوا وهو موجود، مؤكدين أنه كان المسجد الجامع الوحيد في رأس الخيمة القديمة، ويتكون آنذاك من أعمدة كبيرة، ويتوسط كل عمودين “جندل«، وكل جندلة ملفوف عليها حبل يسمى “استعمالي«، ومايزال الجندل والأعمدة مِن الجص موجودة . وفي مكان وضوء المصلين كانت توجد “طوي«، أي بئر، “خريجة«، باللهجة المحلية، (أي مالحة)، وتقع بجوار الباب، وأنشئت لاحقاً الحمامات في الجهة الشمالية . ويؤكد ابن صراي في دراسته عدم وجود أية إشارة أو نص يدل على تاريخ بناء المسجد، في حين أن الرواية الشفاهية وأحاديث الأهالي تحتفظ بمعلومات قيمة، يمكن للباحث التاريخي والمعماري توظيفها . والرواية الشفهية تمدنا بمعلومات معمارية غير مدونة، في ظل تعرض بناء المسجد للتغيير . في سياق متصل، بدأت دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة مؤخراً مشروع صيانة وترميم المسجد الجامع . يقول محمد الكيت، المستشار في الديوان الأميري، المدير العام لدائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة: “إن المسجد يتميز بعمرانه الهندسي القديم، ويحتوي على عدد كبير من الأعمدة داخل باحته، وتجري أعمال الصيانة والترميم حالياً وفقاً للمعايير العالمية، وستعمل الدائرة خلال المرحلة المقبلة على تحديد عمر المسجد بالدقة الممكنة”. ويشير الكيت إلى أن “المسجد يعاني حالياً شقوقاً متعددة ورطوبة عالية في جدرانه، وبحثت وزارة الأشغال العامة بالتنسيق مع الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف أسباب الشقوق، واتضح من خلال زيارة فريق من المهندسين عمقها، واحتمالية إضرارها بالمسجد، لذا أوصى الفريق الهندسي بصيانة عاجلة، لتجنب المزيد من تدهور حالة مبنى المسجد«، مؤكداً أن “المحافظة على المواقع الأثرية والتاريخية واجب وطني، باعتباره تراثاً عمرانياً وتاريخاً وطنياً، يتحتم حمايته، لضمان وصوله للأجيال القادمة، وترسيخ البعد التاريخي للإمارات ككل، ورأس الخيمة تحديداً”. وتدرس دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة حالياً، عبر الوثائق والصور الجوية القديمة، التي التقطها الإنجليز خلال وجودهم في الماضي، تحديد عمر المسجد والمرافق والمنشآت التي كانت تحيطه . ووفقاً لمدير عام دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة، “عثر خبراء الترميم على جدران وآثار باحة مسجد قديم ومحراب للصلاة في أسفل وسط المسجد الجامع، ما يؤكد قدم تاريخ المسجد القديم وأصالته ضاربة الجذور في التاريخ الإماراتي”. بعيون فنية من وجهة نظر فنية خالصة، يرى ناصر أبو عفرا الفنان التشكيلي ابن رأس الخيمة، أن “الجامع القديم في رأس الخيمة القديمة ينطوي على قيمة فنية جمالية وحضارية كبيرة، وهو قادر على إلهام الفنانين والمبدعين بمختلف تفرعاتهم واشتغالاتهم الفنية، من فنانين تشكيليين وروائيين وكتاب قصة قصيرة وشعراء وسينمائيين وسواهم، مثلما حفز المؤرخين والمتخصصين في الآثار على دراسة تاريخه وتتبع دوره في تاريخ رأس الخيمة وترميم مرافقه”. يضيف أبو عفرا أن “المسجد القديم تجسد في تذكارات عدة أنجزها بنفسه، من خلال التقاط صور فوتوغرافية للواجهة الخارجية للمسجد، واستخدامها في مشهد معبر عن الأجواء الرمضانية بطابعها الإسلامي الخاص في رأس الخيمة، نظراً لجمالية البناء وبعده التاريخي ومكانته الخاصة في نفوس أبناء رأس الخيمة”. ويشير الفنان التشكيلي الإماراتي إلى أن “عمارة المسجد تتجلى بطابع إسلامي قديم وأصيل، في غاية الجمال الذي يصل إلى حدود إلهام الفنان ذي الحس الفني المرهف، المرتبط بتراثه وتاريخه الوطني والاجتماعي، فيما يتميز المسجد القديم بأقواسه في مدخله من جهة الساحة الخارجية، وبأعمدته المتعددة الممتدة في أنحائه”. المخرج السينمائي والمسرحي الشاب ناصر اليعقوبي يرى المسجد بعين السينمائي والمسرحي، قائلاً: “إن المكان يتسم بالروعة، حيث بني على ربوة مرتفعة عن سطح الأرض، تطل على مياه الخليج العربي الزرقاء، في موقع طبيعي جميل ومشهد أخاذ«، مشيراً إلى أن “الموقع يغري أي مخرج سينمائي أو أي من العاملين في الفن السابع بالعمل فيه والتصوير في ربوعه، نظراً لأصالة البناء وقدم العمران، واحتفاظه بسماته التراثية الأصيلة من حجر طبيعي محلي مأخوذ من البيئة الإماراتية، بجانب الخلفية البحرية للموقع، ومنظر الرمال المنسابة على الشاطئ والحشائش المتناثرة هنا وهناك، إلى جانب شجرة سدر محلية، تضفي طابعاً جمالياً أكثر تكاملاً على الموقع، مع بعض المنازل القديمة قريبا منه«، مؤكداً أن “كل ما في المسجد ومحيطه يشكل إضافة فنية جمالية وبعداً تاريخياً للمنطقة”. أيام جميلة المهندس محمد صقر الأصم المدير العام لدائرة بلدية رأس الخيمة، يوضح أن “بلدية رأس الخيمة تولت سابقا مسؤولية الحفاظ على الجامع القديم، قبل أن تنتقل المسؤولية في أعوام لاحقة إلى دائرة الآثار والمتاحف في الإمارة، بعد إنشاء الأخيرة، في حين أن دور البلدية الحالي يتمثل في التنسيق المسبق مع دائرة الآثار وسواها من جهات مختصة في ما يتعلق بعمليات صيانة وترميم الجامع وخدمته، هو وسواه من مواقع تاريخية ومبانٍ تراثية ومرافق عامة، ودور الدائرة حالياً ينصب على البعد التخطيطي«، لافتاً إلى أن “كل المناطق الأثرية والتاريخية والتراثية محددة في المخطط الهيكلي العام للإمارة، وهي محمية بموجب هذا المخطط”. ويقول الأصم (55 عاماً): “كان المسجد، الذي يقع في “فريج هل علي«، ولا يزال يمثل قيمة كبيرة لأهل رأس الخيمة منذ أن رأينا النور على هذه الدنيا، والمعروف منذ عهد الآباء أنه المسجد الجامع الرئيس في الإمارة، وكان “الشواب”يصطحبوننا، حين كنا صغاراً، إلى المسجد، لاسيما أيام الجمع، لأداء الصلاة في رحابه، وهو ما كان يفعله أبي معي، وتعود ذاكرتي إلى المرة الأولى التي زرت فيها المسجد عندما كان عمري يراوح بين 7 إو8 أعوام، في مشهد ديني إنساني واجتماعي جميل في تلك الحقبة، يعكس روحانية المجتمع وترابط أبنائه، وعلاقاتهم الاجتماعية المتينة”. يضيف المدير العام لبلدية رأس الخيمة: “للجامع مزايا عديدة بالمقارنة مع مساجد الإمارة الأخرى في ذلك الزمن، من أهمها حجمه الكبير الذي يؤهله حينها لاستيعاب العدد الكبير من أهالي الإمارة، وما يحتوي من أعمدة كبيرة، تصطف متوازية، إضافة إلى ارتفاع الموقع الذي يحتله المسجد عما حوله في رأس الخيمة القديمة، ما يشعر زائره والمتعبد فيه بارتفاعه وبالتالي بحالة نفسية خاصة”. “وكان أيضاً في الحقبة السابقة يعد من المساجد والمرافق العامة الفخمة، نقطع من أجل الوصول إليه مسافة بعيدة، من الحي الذي نقطنه في منطقة الظهر، بين سدروه وفريج “هل علي”في رأس الخيمة القديمة، عبر الدروب الصغيرة الضيقة، المعروفة باسم “السكيك”في اللهجة المحلية، وهي مسافة لا بد من قطعها في خط متعرج، نظراً لأن المدينة لم تكن مخططة وفق التخطيط الحديث في تلك المرحلة، ويحتفظ الجامع اليوم بجاذبيته وسحره الروحاني الخالص، في ظل التقدم العمراني الهائل”. يستطرد محمد صقر الأصم: “للمسجد الجامع في رأس الخيمة نوافذ متعددة وكبيرة يدخل منها الهواء قادماً من جهة البحر القريب، وفي وقت لم تكن الكهرباء فيه متوافرة في رأس الخيمة ومعظم إمارات الدولة الأخرى، لعبت تلك النوافذ التقليدية دور (المكيف) في زماننا، الأمر الذي يبرد على المصلين ويرد إليهم الروح والنفس في أوقات الصيف شديدة الحرارة والرطوبة في الإمارات، بينما جدران المسجد تتميز بسماكتها، ما يحتفظ بالجو داخل الجامع بارداً، ويعزله عن درجات الحرارة والرطوبة المرتفعة في الخارج”. ومن نبع الذكريات يقول الأصم: “يضم المسجد في داخله عدداً كبيراً من الأعمدة، كان المصلون في زمن مضى يستندون إليها قبل إقامة الصلاة أو خلال قراءة ما يتيسر لهم من كتاب الله الكريم، وهو مكان يحفل بالذكريات بالنسبة لأبناء رأس الخيمة من جيل الكبار والشواب والمخضرمين، باعتباره المكان الرئيس وأحد أهم المرافق العامة أهمية في الإمارة في مرحلة ما قبل قيام دولة الاتحاد، حيث يمكن أن تلتقي فيه أي شخص من أهل رأس الخيمة، لاسيما من العائدين من السفر والمغتربين خارج ربوعها أو خارج الإمارات ككل، ومن الأصدقاء الذين لم يروا بعضهم منذ فترة طويلة، وهو أحد الأماكن، كما لو كان يوم الجمعة تحديداً عيداً أسبوعياً”. ويؤكد الأصم “كانت أياماً جميلة، لاسيما يوم الجمعة، حينها كان الناس يحرصون على وصل أرحامهم بعد أداء صلاة الجمعة في المسجد القديم، وبعضهم يتناولون وجبة الغداء مع أقاربهم وأهلهم بصورة جماعية، تعكس أبعاداً اجتماعية أبلغ من التعبير والجمل الإنشائية”. لم تتغير ملامح المسجد الجامع اليوم عما كانت عليه في الماضي، كما يقول المهندس الأصم، فيما تعددت المساجد في رأس الخيمة بصورة كبيرة، ولم يعد الجامع القديم الملتقى الرئيس لأبناء مدينة رأس الخيمة التي كبرت وامتدت وترامت أطرافها في الاتجاهات الأربعة
تعليقات